سورة مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
شَرْحُ الغَرِيْب :
(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ) :الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ابتداء وللأمة تبعا أي: ،هل أتاك نبأ الغاشية وهو اسم من أسماء القيامة ؛ لأنها تغشى الناس كلهم وتعمهم بأهوالها فاللهم سلم سلم .
( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ) أي: ذليلة مهينة, وخَصّ الوجوه بالذكر؛ لأن الوجه أشرف أعضاء الإنسان ، فإذا كان الوجه ذليلاً كان غيره من باب أولى , وفي الآية جمع بين العذاب الحسي, والقهر المعنوي لجماعة المجرمين !!
( عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ ) أي: عملت في الدنيا عملاً لا ينفعها عند الله ونصبت لأجله وتعبت!
وقيل : تُكلّف في جهنم بمكابدة أشق الأعمال !
( تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً ) : أي في جهنم ، وهي نار في غاية البشاعة والإحراق؛ فقد فاقت نار الدنيا بتسعة وستين جزءاً .
( تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) : أي تُسقى من ماء بلغ النهاية في الحرارة والإحراق .
( لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ) : طعام من نار! وقيل : هو الزقوم وقيل: نبت ناري من شر الطعام وأبشعه وأخبثه .
( لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ) : لا يحصل به مقصود ، ولا يندفع به محذور!
( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ) : هؤلاء هم الصنف الثاني من أهل الموقف وهم أهل السعادة والفلاح . وصف وجوههم بالنعومة أي يُرى منها أثر النعيم ممّا ادخره الله لهم من الثواب العميم والجزاء المقيم !
( لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ ) : السعي : هو العمل الصالح الذي قدّمته في الدنيا إرضاءً لربها؛ فاستحقت أن يُرضيها ربها ويسعد قلوبها .
( فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ) : أي : مقامها في جنة عالية ، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ومع ذلك فقد ذكر الله تشويقاً بعض ممّا فيها كما سيأتي .
( لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً ) : اللغو : هو الكلام السيئ القبيح ، أو الذي لا فائدة منه ، فإنّ شيئاً من ذلك لن يُقال ولن يُسمع في جنة الله الخالدة . بل فيها أطيب الكلام وأجله كما قال تعالى : { لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا تَأْثِيماً * إِلَّا قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً } الواقعة (25، 26)
( فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ ) : أي في الجنة عين ماء جارية بأعذب الماء وأحلاه فهو غير آسن ولا متغير الطعم . قال ابن كثير : وهذه نكرة في سياق الإثبات ، وليس المراد بها عين واحدة ، وإنما هذا جنس ، يعني : فيها عيون جاريات .
( فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ ) : أي عالية ناعمة كثيرةُ الفُرش ، عليها الحورُ العين .
( وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ ) : يعني أواني الشراب ، مُعدَّة ، مُجَّهزة لمن أراد الشراب من أنهار الجنة ، وأشربتها التي لا يَعلمُ أصنافها وأنواعها ومذاقها إلا الله سبحانه .
( وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ ) : النمارق هي: الوسائد التي يتكئ عليها أهل الجنة اتكاء لذة وتنعم لا استراحة واسترخاء ، فما في الجنة تعب ولا إعياء !
( وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) : الزرابيّ هي : البُسُطُ ذاتُ الألوان الزاهية والخامات الرائعة والجمال الخلّاب .
مبثوثة : أي موضوعة في كلّ مكان لمن أراد الجلوس عليها.
( أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ) : ألا يتفكرون في مخلوقات الله الدالة على عظمة الله المدبر سبحانه ومنها هذه الإبل : ذات الخلق العجيب ، والشكل الفريد ، والنفع العظيم!
( وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ ) : وهي الآية الكونية الثانية والمراد أفلا ينظرون ويتفكرون في هذه السماء المرفوعة بلا عمد! والممسوكة بقدرة الله الباهرة ، الجميلة المنظر ، المحكمة البناء ، الواسعة الأنحاء.
( وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ) : وهي الآية الكونية الثالثة والمراد أفلا يتفكرون في هذه الجبال الشاهقة ، ذات القمم العالية ، والصخور القاسية ، والسلاسل الممتدة .
( وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) : وهي الآية الكونية الرابعة ، والمراد أفلا يتفكرون في هذه الأرض المترامية الأطراف ، والمتباعدة الأرجاء ، ذات السهول والوديان ، والجبال والهضاب ، والصحاري والقفار ، والبساتين والغابات ، وما يدب فيها من الإنسان والجان ، والطير والحيوان
( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ ) : أي عليك تذكيرهم فهي
وظيفتك ومهمتك!
( لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ) : أي لست عليهم بجبار تقهرهم على الاستجابة وتكرههم على الإيمان !
( إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ ) : إلا بمعنى لكن ، لأنّ الاستثناء منقطع ، يعني المستثنى من غير جنس المستثنى منه ، والتولي هو الإعراض عن الذكر ، والاستجابة لنداء الحق .
( فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ) : أي العذاب الذي لا عذاب فوقه ، وهو عذاب أبدي سرمدي موجع مُدمِّر !
( إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ) : أي رجوعهم بعد البعث إلينا دون غيرنا .
( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ) : أي نتكفل وحدنا بحسابهم وتقريرهم بذنوبهم .
هدايــــــــة الآيــــــــات .
في مستهل هذه السورة العظيمة ، يسوقُ الله تعالى جملة من أحداث القيامة بادئاً الحديث في هيئة استفهام لافت للأنظار ، جامع للانتباه ، مستحضر للحواس !
(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ) الخطاب موجه للرسول صلى الله عليه وسلم وكلّ من آمن بالله واليوم الآخر وتاقت نفسه لمعرفة شيء من أنباء ذلك اليوم الرهيب .
(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ) ؟ أي هل أتاك نبأ ذلك اليوم ..يوم الغاشية التي تغشى الخلائق كلّهم بأهوالها وشدائدها ،وتغمرهم بأحداثها وفظائعها !
فيتضاءل كلّ كبير ، ويتقزم كلّ عملاق ، ويذلُّ كلّ مستكبر ؛فتخفت الأصوات ، وتخشع الوجوه ، وتتطامن الرؤوس !
{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ{2} عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ{3} تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً{4} تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ{5} لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ{6} لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ } في ذلك اليوم ينقسم الناس إلى فريقين :
1- أهل شقاء وحسرة ووجوه خاشعة ذليلة .
2- وأهل سعادة وفرحة ووجوه ناعمة عزيزة !
فأما الأولون فكما قال الله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ } أي ذليلة ممّا لاقوه من بأس الله ونقمته ، وغضبه ولعنته .
فقد أدركوا بعد فوات الأوان قبح صنيعهم ، وسوء فعالهم ، وشر مآلهم ، ينظرون من طرف خفي ، تصطك أسنانهم من الخوف والهلع ، والرعب والقلق ، ويرتجفون من الرهبة والحسرة بعد أن أسقط في أيديهم وعرفوا كم خدعوا أنفسهم وكم غرَّهم الشيطان حتى صاروا إلى هذا المآل !
ولقد ذكر الله تعالى ذلّ الوجوه وهي أشرف ما لدى الإنسان ليبيّن تعالى أنّه قد جمع لهم بين العذاب النفسي والعصبي وبين العذاب الجسدي والبدني في أبلغ صورة وأمضى عبارة !
وهم مع ذلك في العذاب عاملون ناصبون أي يكلفون في جهنم مكابدة أشق الأعمال وأكثرها إرهاقاً ونصباً إمعاناً في إذلالهم وتعذيبهم!
وربما كان معنى (عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ) أي: في الدنيا حين أتعب الكفار أبدانهم في أعمال لا تنفعهم عند الله تعالى ولا تغني عنهم شيئاً !
وأما ثالثة الأثافي فهي صلي النار الحامية التي تقطع الأجساد وتمزقها وتطلع على الأفئدة وتحرقها : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً } النساء ، (56) .
{ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ * } الهمزة (4 - 9 ) .
وهذه النار في غاية الفظاعة والشدة وحسبنا منها أنّها نار تفوق نار الدنيا بتسعة وستين جزءً كما روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة "
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءا من حر جهنم قالوا: والله إن كانت لكافية يا رسول الله, قال: فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلها مثل حرها " ([1] )
( تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ) فهؤلاء المعذبون في غمرات النيران الملتهبة يتلهفون لماء يُخفف عناءهم ، ويُبرِّد حرهم فيغاثون بعد طول انتظار بالماء المغلي الذي تناهى حراً وتشبع ناراً !
{ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً } الكهف (29) .
وقال تعالى : { يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ } الحج ( 19 ، 21)
وقال تعالى : { وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ } محمد ( 15) .
فهذا شراب أهل النار بل بعض شرابهم نسأل الله العفو والعافية .
( لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ ) :
( الضريع ) نبت ذو شوك لاصق بالأرض ، تسميه قريش ( الشّبْرِق) إذا كان رطباً ، فإن كان يابساً فهو الضريع ، لا تقربه دابة ولا بهيمة ، ولا ترعاه!
وهو سم قاتل, من أخبث الطعام وأشنعه وعلى هذا عامة المفسرين قاله القرطبي وصححه .
قلت : ومعلوم أنّ ضريع الآخرة لا يمكن أن يقاس بضريع الدنيا في نتنه ولا في لونه ولا في طعمه كغيره من أنواع الطعام والشراب التي يُعذّب بها أهل النار !
فإن قال قائل : فما وجه الجمع بين قوله هنا ( لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ ) , وقوله ( فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ) الحاقة ( 35، 36 ) .
أجاب القرطبي :
" وجه الجمع أنّ النار دركات ، فمنهم من طعامه: الزقوم ، ومنهم من طعامه: الغسلين ، ومنهم من طعامه: الضريع " أ. هـ .
إذاً فطعامهم عذاب فوق عذاب ، وألم فوق الألم جزاءً وفاقاً لما اقترفوه من الظلم والكفر, والشرك والفجور, والعناد والإعراض ولا يظلم ربك أحداً !
{ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ } وهي صفة أخرى لذلك الطعام الخبيث ، فعدا كونه طعام عذاب وألم وغصة فهو أيضاً لا فائدة من وراءه فلا يسمن الأجسام ولا يغني من الجوع المؤلم المهلك !
فليتفطن كلُّ عاقل وليتذكر كلّ لبيب ؛ فإنّه لقول فصل وما هو بالهزل .
( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ ) هذه الآيات تصف سعادة أهل الإيمان وتعدد شيئاً من ثوابهم !
بسم الله الرحمن الرحيم
شَرْحُ الغَرِيْب :
(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ) :الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ابتداء وللأمة تبعا أي: ،هل أتاك نبأ الغاشية وهو اسم من أسماء القيامة ؛ لأنها تغشى الناس كلهم وتعمهم بأهوالها فاللهم سلم سلم .
( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ) أي: ذليلة مهينة, وخَصّ الوجوه بالذكر؛ لأن الوجه أشرف أعضاء الإنسان ، فإذا كان الوجه ذليلاً كان غيره من باب أولى , وفي الآية جمع بين العذاب الحسي, والقهر المعنوي لجماعة المجرمين !!
( عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ ) أي: عملت في الدنيا عملاً لا ينفعها عند الله ونصبت لأجله وتعبت!
وقيل : تُكلّف في جهنم بمكابدة أشق الأعمال !
( تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً ) : أي في جهنم ، وهي نار في غاية البشاعة والإحراق؛ فقد فاقت نار الدنيا بتسعة وستين جزءاً .
( تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) : أي تُسقى من ماء بلغ النهاية في الحرارة والإحراق .
( لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ) : طعام من نار! وقيل : هو الزقوم وقيل: نبت ناري من شر الطعام وأبشعه وأخبثه .
( لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ) : لا يحصل به مقصود ، ولا يندفع به محذور!
( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ) : هؤلاء هم الصنف الثاني من أهل الموقف وهم أهل السعادة والفلاح . وصف وجوههم بالنعومة أي يُرى منها أثر النعيم ممّا ادخره الله لهم من الثواب العميم والجزاء المقيم !
( لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ ) : السعي : هو العمل الصالح الذي قدّمته في الدنيا إرضاءً لربها؛ فاستحقت أن يُرضيها ربها ويسعد قلوبها .
( فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ) : أي : مقامها في جنة عالية ، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ومع ذلك فقد ذكر الله تشويقاً بعض ممّا فيها كما سيأتي .
( لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً ) : اللغو : هو الكلام السيئ القبيح ، أو الذي لا فائدة منه ، فإنّ شيئاً من ذلك لن يُقال ولن يُسمع في جنة الله الخالدة . بل فيها أطيب الكلام وأجله كما قال تعالى : { لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا تَأْثِيماً * إِلَّا قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً } الواقعة (25، 26)
( فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ ) : أي في الجنة عين ماء جارية بأعذب الماء وأحلاه فهو غير آسن ولا متغير الطعم . قال ابن كثير : وهذه نكرة في سياق الإثبات ، وليس المراد بها عين واحدة ، وإنما هذا جنس ، يعني : فيها عيون جاريات .
( فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ ) : أي عالية ناعمة كثيرةُ الفُرش ، عليها الحورُ العين .
( وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ ) : يعني أواني الشراب ، مُعدَّة ، مُجَّهزة لمن أراد الشراب من أنهار الجنة ، وأشربتها التي لا يَعلمُ أصنافها وأنواعها ومذاقها إلا الله سبحانه .
( وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ ) : النمارق هي: الوسائد التي يتكئ عليها أهل الجنة اتكاء لذة وتنعم لا استراحة واسترخاء ، فما في الجنة تعب ولا إعياء !
( وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) : الزرابيّ هي : البُسُطُ ذاتُ الألوان الزاهية والخامات الرائعة والجمال الخلّاب .
مبثوثة : أي موضوعة في كلّ مكان لمن أراد الجلوس عليها.
( أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ) : ألا يتفكرون في مخلوقات الله الدالة على عظمة الله المدبر سبحانه ومنها هذه الإبل : ذات الخلق العجيب ، والشكل الفريد ، والنفع العظيم!
( وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ ) : وهي الآية الكونية الثانية والمراد أفلا ينظرون ويتفكرون في هذه السماء المرفوعة بلا عمد! والممسوكة بقدرة الله الباهرة ، الجميلة المنظر ، المحكمة البناء ، الواسعة الأنحاء.
( وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ) : وهي الآية الكونية الثالثة والمراد أفلا يتفكرون في هذه الجبال الشاهقة ، ذات القمم العالية ، والصخور القاسية ، والسلاسل الممتدة .
( وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) : وهي الآية الكونية الرابعة ، والمراد أفلا يتفكرون في هذه الأرض المترامية الأطراف ، والمتباعدة الأرجاء ، ذات السهول والوديان ، والجبال والهضاب ، والصحاري والقفار ، والبساتين والغابات ، وما يدب فيها من الإنسان والجان ، والطير والحيوان
( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ ) : أي عليك تذكيرهم فهي
وظيفتك ومهمتك!
( لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ) : أي لست عليهم بجبار تقهرهم على الاستجابة وتكرههم على الإيمان !
( إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ ) : إلا بمعنى لكن ، لأنّ الاستثناء منقطع ، يعني المستثنى من غير جنس المستثنى منه ، والتولي هو الإعراض عن الذكر ، والاستجابة لنداء الحق .
( فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ) : أي العذاب الذي لا عذاب فوقه ، وهو عذاب أبدي سرمدي موجع مُدمِّر !
( إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ) : أي رجوعهم بعد البعث إلينا دون غيرنا .
( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ) : أي نتكفل وحدنا بحسابهم وتقريرهم بذنوبهم .
هدايــــــــة الآيــــــــات .
في مستهل هذه السورة العظيمة ، يسوقُ الله تعالى جملة من أحداث القيامة بادئاً الحديث في هيئة استفهام لافت للأنظار ، جامع للانتباه ، مستحضر للحواس !
(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ) الخطاب موجه للرسول صلى الله عليه وسلم وكلّ من آمن بالله واليوم الآخر وتاقت نفسه لمعرفة شيء من أنباء ذلك اليوم الرهيب .
(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ) ؟ أي هل أتاك نبأ ذلك اليوم ..يوم الغاشية التي تغشى الخلائق كلّهم بأهوالها وشدائدها ،وتغمرهم بأحداثها وفظائعها !
فيتضاءل كلّ كبير ، ويتقزم كلّ عملاق ، ويذلُّ كلّ مستكبر ؛فتخفت الأصوات ، وتخشع الوجوه ، وتتطامن الرؤوس !
{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ{2} عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ{3} تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً{4} تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ{5} لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ{6} لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ } في ذلك اليوم ينقسم الناس إلى فريقين :
1- أهل شقاء وحسرة ووجوه خاشعة ذليلة .
2- وأهل سعادة وفرحة ووجوه ناعمة عزيزة !
فأما الأولون فكما قال الله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ } أي ذليلة ممّا لاقوه من بأس الله ونقمته ، وغضبه ولعنته .
فقد أدركوا بعد فوات الأوان قبح صنيعهم ، وسوء فعالهم ، وشر مآلهم ، ينظرون من طرف خفي ، تصطك أسنانهم من الخوف والهلع ، والرعب والقلق ، ويرتجفون من الرهبة والحسرة بعد أن أسقط في أيديهم وعرفوا كم خدعوا أنفسهم وكم غرَّهم الشيطان حتى صاروا إلى هذا المآل !
ولقد ذكر الله تعالى ذلّ الوجوه وهي أشرف ما لدى الإنسان ليبيّن تعالى أنّه قد جمع لهم بين العذاب النفسي والعصبي وبين العذاب الجسدي والبدني في أبلغ صورة وأمضى عبارة !
وهم مع ذلك في العذاب عاملون ناصبون أي يكلفون في جهنم مكابدة أشق الأعمال وأكثرها إرهاقاً ونصباً إمعاناً في إذلالهم وتعذيبهم!
وربما كان معنى (عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ) أي: في الدنيا حين أتعب الكفار أبدانهم في أعمال لا تنفعهم عند الله تعالى ولا تغني عنهم شيئاً !
وأما ثالثة الأثافي فهي صلي النار الحامية التي تقطع الأجساد وتمزقها وتطلع على الأفئدة وتحرقها : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً } النساء ، (56) .
{ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ * } الهمزة (4 - 9 ) .
وهذه النار في غاية الفظاعة والشدة وحسبنا منها أنّها نار تفوق نار الدنيا بتسعة وستين جزءً كما روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة "
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءا من حر جهنم قالوا: والله إن كانت لكافية يا رسول الله, قال: فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلها مثل حرها " ([1] )
( تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ) فهؤلاء المعذبون في غمرات النيران الملتهبة يتلهفون لماء يُخفف عناءهم ، ويُبرِّد حرهم فيغاثون بعد طول انتظار بالماء المغلي الذي تناهى حراً وتشبع ناراً !
{ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً } الكهف (29) .
وقال تعالى : { يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ } الحج ( 19 ، 21)
وقال تعالى : { وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ } محمد ( 15) .
فهذا شراب أهل النار بل بعض شرابهم نسأل الله العفو والعافية .
( لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ ) :
( الضريع ) نبت ذو شوك لاصق بالأرض ، تسميه قريش ( الشّبْرِق) إذا كان رطباً ، فإن كان يابساً فهو الضريع ، لا تقربه دابة ولا بهيمة ، ولا ترعاه!
وهو سم قاتل, من أخبث الطعام وأشنعه وعلى هذا عامة المفسرين قاله القرطبي وصححه .
قلت : ومعلوم أنّ ضريع الآخرة لا يمكن أن يقاس بضريع الدنيا في نتنه ولا في لونه ولا في طعمه كغيره من أنواع الطعام والشراب التي يُعذّب بها أهل النار !
فإن قال قائل : فما وجه الجمع بين قوله هنا ( لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ ) , وقوله ( فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ) الحاقة ( 35، 36 ) .
أجاب القرطبي :
" وجه الجمع أنّ النار دركات ، فمنهم من طعامه: الزقوم ، ومنهم من طعامه: الغسلين ، ومنهم من طعامه: الضريع " أ. هـ .
إذاً فطعامهم عذاب فوق عذاب ، وألم فوق الألم جزاءً وفاقاً لما اقترفوه من الظلم والكفر, والشرك والفجور, والعناد والإعراض ولا يظلم ربك أحداً !
{ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ } وهي صفة أخرى لذلك الطعام الخبيث ، فعدا كونه طعام عذاب وألم وغصة فهو أيضاً لا فائدة من وراءه فلا يسمن الأجسام ولا يغني من الجوع المؤلم المهلك !
فليتفطن كلُّ عاقل وليتذكر كلّ لبيب ؛ فإنّه لقول فصل وما هو بالهزل .
( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ ) هذه الآيات تصف سعادة أهل الإيمان وتعدد شيئاً من ثوابهم !
الثلاثاء أبريل 28, 2009 8:45 am من طرف أيسه
» حكمة اليوم
الإثنين أبريل 27, 2009 2:42 pm من طرف amr.elsweedy
» مرحبا شريف
السبت أبريل 25, 2009 11:55 am من طرف روضة
» فا علم أنه لآ إله إلا الله
الجمعة أبريل 24, 2009 5:12 pm من طرف أم سلوان
» احذروا أخواتى من هذة الكلمات............
الجمعة أبريل 24, 2009 11:43 am من طرف رجاء الصالحين
» مواقع للفائدة
الجمعة أبريل 24, 2009 11:22 am من طرف رجاء الصالحين
» فلينظر الأنسان مم خلق
الجمعة أبريل 24, 2009 8:41 am من طرف nouralimen
» طبق كل بيت مسلم
الجمعة أبريل 24, 2009 8:01 am من طرف nouralimen
» قصة الأكياس والوزراء الثلاثة
الجمعة أبريل 24, 2009 7:50 am من طرف nouralimen